- 5 -
[ لمتابعة رابط المشاركــة الأصليّة للبيـــان ]
https://mahdialumma.net/showthread.php?p=166868
الإمام ناصر محمد اليماني
01 - 02 - 1436 هـ
23 - 11 - 2014 مـ
09:52 صباحاً
ــــــــــــــــــ
مزيدٌ من سلطان العلم لتفصيل الأحكام من محكم القرآن من لدن حكيمٍ عليمٍ ..
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على كافة أنبياء الله ورسله، ويا قرة العين، لسوف نأخذ برهانك الأول الذي تستشهد فيه بقول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ ۗ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴿٧١﴾} صدق الله العظيم [الحج]. فذلك الخطاب بالتهديد والوعيد من بعد أن نزل سلطان العلم الحقّ من الله عليهم فأصرّوا على الاستمرار في عبادة ما لم ينزّل الله به من سلطانٍ، وما للظالمين من نصيرٍ من بعد إقامة الحجّة عليهم بسلطان العلم الحقّ من ربِّهم، ولا يقصد الذين لم يبعث إليهم رسولاً لكون ليس لديهم سلطان العلم الحقّ من ربِّهم وإنما اتّبعوا أمماً من قبلهم وهم لا يعلمون السرّ في عبادة الأصنام، وبعد نزول سلطان العلم من ربِّهم بتحريم عبادة الأصنام فمن ثمّ يجادلون الأنبياء بما لم ينزّل الله به سلطاناً. وقال الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحقّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا ﴿56﴾ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيات ربّه فَأَعْرَضَ عَنْهَا} صدق الله العظيم [الكهف:56-57].. ولذلك قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ ۗ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴿٧١﴾} صدق الله العظيم.
ونأتي لبرهانك بقول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴿١١٥﴾ فَتَعَالَى اللَّـهُ الْمَلِكُ الحقّ ۖ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴿١١٦﴾ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴿١١٧﴾} صدق الله العظيم [المؤمنون].
فمن ثمّ نردّ عليك بالحقِّ ونقول: إنّما يقصد الله الكافرين من بعد نزول البرهان الحقّ من ربِّهم. تصديقاً لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ﴿١٧٤﴾فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿١٧٥﴾} صدق الله العظيم [النساء].
وأما الآيات الأخر التي تحاجِجني بها فسوف أفتيك بالحقِّ، وهو يقصد المؤمنين المبالغين في عباد الله المقربين فيدعونهم من دون الله؛ وأولئك حصب جهنم هم لها واردون، لكونهم كانوا السبب في ضلال الأمم من بعدهم، وأولئك لا تزال الحجّة عليهم قائمةً كونهم على فترةٍ قريبةٍ من رسول ربّهم الذي أرسله الله من قبل إلى أمّتهم، ولكنّهم يبالغون في عبادٍ لله مكرَّمين كانت لهم كراماتٍ، ثمّ تبالغ فيهم أمّتهم من بعد موتهم وهم يعرفونهم ثم يدعونهم من دون الله من بعد موتهم.
والبرهان على معرفتهم لعبادٍ لله مكرّمين فبالغوا فيهم من بعد موتهم تجده في قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ ۖ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ۖ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)} صدق الله العظيم [النحل].
وإنّ المشركين يعرفون عباد الله المكرّمين وبالصورة وبالغوا فيهم من بعد موتهم. وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّـهِ مَوْلَاهُمُ الحقّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)} صدق الله العظيم [يونس].
فانظر لردّ عباد الله المكرمين؛ قالوا: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)} صدق الله العظيم. فهم غافلون عن عبادتهم لهم من دون الله كون الله قد توفّاهم وإنّما بالغوا فيهم من بعد موتهم، ولو لم يزالوا فيهم لنَهَوْهم عن المبالغة فيهم بغير الحقّ؛ بل كفروا لكونهم كانوا يدعونهم أن يشفعوا لهم عند الله يوم البعث لأنّ أولئك المشركين يعلمون بمجيء يوم البعث. وقال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} صدق الله العظيم [يونس:18]، فهم يعلمون بيوم البعث.
فمن ثمّ أذِن الله لهم أن يدعوا شركاءهم ليشفعوا لهم إن كانوا صادقين؛ فدعوهم فلم يستجيبوا لهم. وقال الله تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} صدق الله العظيم [القصص:64]. لكونهم نحتوا تماثيل صورٍ لعباد الله المكرّمين وجعلوها كمثل صورهم فيدعونهم من بعد موتهم، ولكنّ عباد الله المكرمين كفروا بعبادتهم لهم من دون الله وكانوا عليهم ضداً بين يدي الله. تصديقاً لقول الله تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً (82)} صدق الله العظيم [مريم].
ويا قرّة عيني، إنّه يتبيّن لك أنّ هذه الآيات يخاطب الله بها قوماً يؤمنون بالبعث وإنّما يعتقدون بشفاعة العبيد بين يدي الربّ المعبود بأنهم سوف يشفعون لهم عند الله، ونستنبط عقيدتهم في البعث من خلال قولهم: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} صدق الله العظيم [يونس:18]. فانظر؛ إنّهم يؤمنون بالبعث ولذلك قالوا: {هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ}، وإنّما يعبدونهم ليقربوهم زلفةً إلى ربّهم. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلياءَ مَا نَعْبُدُهمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ} صدق الله العظيم [الزمر:3].
فأولئك على مقربةٍ من بعث رسول ربّهم إلى أمّةٍ قبلهم، ولا يزالون يعتقدون بالبعث بين يدي الله، ويعلمون أنّ الله من سوف يبعثهم، ويرجون شفاعة عباد الله المقربين لهم بين يدي الله كما هو حال المسلمين اليوم على فترةٍ من خاتم الأنبياء والمرسلين محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويا رجل، إنّ أصحاب الأعراف أممٌ أخرى ضلّت عنهم الحقائق برمّتها، فهم لا يعلمون بالبعث وإنّما سمعوا من قصص الأمم الغابرة بأنّه يوجد هناك بعثٌ وظنّوا أنّ هذه التي سمعوا بها أساطيرٌ عن طريق قصص الأولين، فظنّوا البعث من ضمن الأساطير لكونهم ليس لديهم كتابٌ ولا رسولٌ فالحجّتين غائبتين الكتابَ والرسولَ فلا وجود لهما في أمّتهم، ولذلك فهم منكرون عقائد البعث كونهم سمعوا من قصص الأمم الأولى بالبعث وظنّوا أنّ البعث من العقائد الأسطوريّة، ولذلك قالوا: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} صدق الله العظيم [يس:52].
وإنّما يبعث الله الرسل حين تضلّ الحقائق عن الأمم تماماً خصوصاً حين يضلّ سرّ عبادة الأصنام وتضمحل عقيدة بعث من في القبور، ولذلك تجد في كلّ أمّةٍ يجادلها أقوامها في بعث من في القبور. فانظر لكفار قريش كيف يجادلون النّبيّ في بعث من في القبور. وقال الله تعالى: {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً (51)} صدق الله العظيم [الإسراء].
ولكن سرّ عبادة الأصنام يضمحل شيئاً فشيئاً مع الزمن حتى يختفي سرّ عبادة الأصنام لدى أممٍ أخرى، حتى إذا بعث الله إليهم رسولاً فيسألهم عن سرّ عبادتهم لهذه الأصنام فيجدهم لا يعلمون السرّ وما كان ردهم إلا أن قالوا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. وقال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} صدق الله العظيم [الشعراء]، فهؤلاء ضلّ السرّ لديهم في عبادة الأصنام.
ويا قرّة عين إمامك، إنّ من الآيات ما تخاطب قوماً مؤمنين يعبدون الله ولكنّهم مشركون بالله عبادَه المكرمين. وقال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)} صدق الله العظيم [يوسف]. وهنا تجد أكثر المؤمنين بالله مشركين به عبادَه المقربين، وكلّ ذلك بسبب عقيدة الشفاعة بالباطل بين يدي الله لكونهم لم يعلموا بسرّ الشفاعة أنّها لله جميعاً. تصديقاً لقول الله تعالى: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}صدق الله العظيم [الزمر:44].. كونها تشفع لعباده رحمتُه من عذابه. ولكنْ لا بدّ من السبب من باب التكريم أن يأتي من العبيد من قومٍ أبَوْا نعيمَ جنّات النّعيم حتى يحقق الله لهم النّعيم الأعظم منها فيرضى فإذا تحقّق رضوان الله نفسَ الله هنا تحققت شفاعة الربّ في نفسه فشفعت لهم رحمته من عذابه لكون السرّ وكلّ السرّ في تحقيق رضوان الله نفسَ الله، فلن تتحقق الشفاعة حتى يرضى في نفسه. تصديقاً لقول الله تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى} صدق الله العظيم [النجم:26]، فانظروا متى تحقيق الشفاعة في نفس الله، وهو إذا تحقق رضوان نفس الله. ولذلك قال الله تعالى: {إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى} صدق الله العظيم.
وأذِن الله لأصحاب القول الصواب، فمن ثمّ تحقق رضوان الربّ لكونه لن يُدخل عباده في رحمته حتى ترضى نفسه سبحانه، فإذا رضي الله في نفسه أدخل عباده المعذبين في رحمته، وهنا المفاجأة الكبرى لدى الضالّين المعذَّبين حين سمعوا ربهّم قال لهم لقد غفرت لكم برحمتي فادخلوا جنّتي، وهنا المفاجأة الكبرى لدى الضالّين المعذبين والصالحين لكونهم إذ لم يسمعوا الوفد المكرمين طلبوا من ربِّهم الشفاعة لأحدٍ من عبيد الله وما ينبغي لهم، وإنّما طلبوا من ربِّهم أن يحقق لهم النّعيم الأعظم من جنته {وَيَرْضَى}؛ فإذا رضي الله في نفسه فقد شفعت لعباده رحمتُه من أجل الذين قدروا ربّهم حقّ قدره وعرفوه حقّ معرفته وعلموا علم اليقين أنّ ربّهم هو الأرحم بعباده، وبسبب عظيم رحمته في نفسه هو متحسرٌ وحزينٌ على عباده الضالين الظالمين لأنفسهم الذين أصبحوا نادمين على ما فرّطوا في جنب ربّهم.
وعلى كل حالً نعود لموقف تحقيق شفاعة الله أرحم الراحمين، فحين رضي في نفسه وشفعت رحمته للمعذبين وقال لهم قد غفرت لكم برحمتي فادخلوا جنّتي فهنا المفاجأة الكبرى! فقالوا للوفد المكرمين: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحقّ وهو العلي الكبير. وقال الله تعالى: {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۚ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۖ قَالُوا الحقّ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} صدق الله العظيم [سبأ].
والسؤال الذي يطرح نفسه: فهل طلبوا من ربِّهم أن يُشَفِّعَهُم في عباده الضالّين المعذَّبين أم طلبوا من ربِّهم تحقيق النّعيم الأعظم من نعيم جنته ويرضى في نفسه؟ والجواب وفصل الخطاب تجدوه في محكم الكتاب في قول الله تعالى: {إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى} صدق الله العظيم.
وتبيّن لكم أنّ الذي أذِن له أن يخاطب ربّه في تحقيق الشفاعة أنّه حقاً قد خاطب ربّه في تحقيق النّعيم الأعظم من جنته (وهو نعيم رضوانه) ويرضى سبحانه فتتحقّق شفاعة رحمته في نفسه للمُعذبين من عباده الضالّين. ولكن عدم إيضاح سرّ تحقيق الشفاعة كان سببَ إشراك كثيرٍ من الأمم.
وعلى كل حال يا حبيبي في الله السائل الأنصاري (قول الحقّ)، إنّ تفسيرك للآيات بدون رسوخٍ في علم الكتاب حتماً سوف يُضلّكَ عن الحقائق فتختلط عليك الأمور ما لم تكن من الراسخين في علم الكتاب، ولسوف أضرب لك على ذلك مثلاً. قال الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} صدق الله العظيم [الأنبياء]. فهل يقصد هؤلاء في قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَـٰؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ﴿١٧﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ﴿١٨﴾} صدق الله العظيم [الفرقان]؟
فلو تأخذ حكم هذه الآية بشكلٍ عامٍ لحكمت على فريقٍ من عباد الله المقربين بنار الجحيم. والسؤال الذي يطرح نفسه فمن يقصد بقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} صدق الله العظيم؟ والجواب تجده في قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَـٰؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴿٤٠﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجنّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴿٤١﴾} صدق الله العظيم [سبأ]، فتبيّن لك أنّه يقصد فريقاً يعبدون شياطين الجنّ ويستعيذون بهم من الشرّ فزادوهم رهقاً، فأولئك يُلقى بهم في نار جهنم كليهما العابدَ والمعبود. تصديقاً لقول الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} صدق الله العظيم.
ويا أيها الأنصاري (قول الحقّ)، انتبه فلا تتّبع المتشابه من آيات القرآن فتضلّ عن الصراط المستقيم، واعلم أنّ أحكام القرآن منها أحكامُ التخصيص؛ وأراك تأخذ الآية فتجعلها حكماً شاملاً على الكافرين وهي ذاتُ حكمٍ مخصصٍ لطائفةٍ من الكافرين كما ضربنا لك على ذلك مثلاً بين آيتين متشابهتين في الحكم فتجد أنّ الله يُلقي بالعابد والمعبود في نار جهنم في قول الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} صدق الله العظيم، ولكنّنا أثبتنا لك حكمها أنّه من الأحكام المخصصة كون الحكم مخصصٌ لطائفتين من الكافرين وهم المشركون الذين اتّخذوا آلهةً من الشياطين فيُلقى بهم هم وما يعبدون من دون الله في نار جهنم. فهنا الحكم يخصّ العابد والمعبود؛ يُلقى بهم في نار جهنم العابد والمعبود من دون الله. ولكن يوجد هناك قومٌ مشركون بالله يدعون عباد الله المقربين فيرجون منهم أن يشفعوا لهم عند ربّهم، كمثل الذين ينادون "يا حسين اشفع لنا" أو "يا أبا الحسن اشفع لنا"، أو من كان على شاكلتهم ممن يدعون عباد الله المقربين من دونه ليشفعوا لهم عند ربّهم برغم أنّ الأنبياء والأئمة والأولياء لم يفتوهم بذلك وما ينبغي لهم. وقد وجّه الله السؤال إلى الأنبياء وأئمة الكتاب والأولياء من الذين يعبدونهم من دون الله فقال لهم: أأنتم أضللتم عبادي وأفتيتم بالباطل أنكم شفعاؤهم بين يدي الله؟ وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَـٰؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ﴿١٧﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ﴿١٨﴾} صدق الله العظيم [الفرقان].
ويا أيها الأنصاري (قول الحقّ)، نحن نأتيك بالحقِّ وأحسن تفسيراً بإذن الله من تفسيرك للقرآن من عند نفسك لكون الإمام المهديّ ما ينبغي له أن يقول على الله ما لا يعلم أنّه الحقّ لا شك ولا ريب، فلا ينبغي للإمام المهديّ أن يتّبع الظنّ الذي لا يغني من الحقّ شيئاً. وقد آتيناك بآياتٍ بيناتٍ محكماتٍ من آيات أمّ الكتاب يفتيك الله بالحقِّ أنّه لن يعذب إلا من أقيمت عليهم الحجّة فهو أعلم بعباده ممن أقيمت عليهم الحجّة فأعرضوا عن الحقّ من ربِّهم. وآتيناك بالبرهان المبين بخطاب الربّ إلى كافة أصحاب النار من الجنّ والإنس، فقال لهم: {يَا مَعْشَرَ الجنّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} صدق الله العظيم [الأنعام:130].
وقال الله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} صدق الله العظيم [آل عمران:108].
فبالله عليك فلو أنّك كنت في منزلك وابنك في المزرعة حتى إذا آوى إليك ابنك ثم قمت بضرب ولدك ضرباً مبرحاً، فقلت له: لماذا لم تُطعنِ فتفعل كذا وكذا في المزرعة؟ وأنت لم ترسل إليه أحداً إلى المزرعة يخبره أن يفعل شيئاً ما! فماذا سوف يكون جواب ابنك؟ سوف يقيم الحجّة عليك ويقول: فهل أمرتني أبتي أو بعثت إلي أحداً ليخبرني بأمرك أن أفعل كذا وكذا ومن ثمّ عصيتُ أمرك؟ فقال الأب: لم أبعث إليك أحداَ. ثم يقول الابن: إذاً فأنت ظالمٌ أبتي؛ فقد ظلمتني في ضربك لي بغير الحقّ. فكذلك لو يعذب الله عباده الذين لم يأتِهم نذيرٌ من ربِّهم ولا كتابٌ من الله يتدارسونه فهل يحقّ لله أن يُلقي بهم في نار جهنم؟ ولكنّ ربي ليس ظالماً سبحانه!
فانظر فمع وجود التوراة والإنجيل المحرّفة في عصر كفار قريش فلم يَلُمْهم الله على اتّباعها بسبب تحريفها، وبما أنّ التوراة والإنجيل أنزلت إلى طائفتين وهم اليهود والنصارى وهم عن دراستهم غافلون وعلم الله أنّهم سوف يحتجون بذلك. وقال الله تعالى: {أن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ (157)} صدق الله العظيم [الأنعام].
وإنّما يعذب الله المكذبين بآيات ربّهم المنزّلة إليهم فأولئك لا يدخلون الجنة حتى يذوقوا وبال أمرهم. تصديقاً لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40].
وإنّما المفترون هم الذين وضعوا اللبنة الأساسيّة لإضلال الأمم وأولئك من حصب جهنم، وكذلك الكفار الذين كفروا بالحقِّ من ربِّهم كذلك في نار جهنم. تصديقاً لقول الله تعالى: {وَقُلِ الحقّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} صدق الله العظيم [الكهف].
وإنّما الوزر على الذين يكفرون بما أُنزل إليهم من ربِّهم في الكتاب. وقال الله تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ( 100 ) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا ( 101 )} صدق الله العظيم [طه]. ونستنبط أنّه لا وزر إلا على من كفر به من الكافرين أو أعرض عنه. تصديقاً لقول الله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ( 99 ) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ( 100 )} صدق الله العظيم [طه]. وكل ذلك تصديقٌ لقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} صدق الله العظيم.
فكن من الشاكرين يا قرّة عين إمامك، ويا حبيبي في الله الأنصاري إنّ لآيات القرآن مواضعاً فعليك أن تضع كلَّ آيةٍ في موضعها الحقّ، ولا حرج عليك في استمرار الحوار وسوف نأتيك بإذن الله بالحقِّ وأحسن تفسيراً من تفسيرك بالظنّ الذي لا يغني من الحقّ شيئاً.